لم يعد من الممكن النظر إلى الخريطة الرياضية العالمية دون أن تلاحظ أن “مركز الجاذبية” بدأ يتحرك. العالم العربي، الذي كان لعقود طويلة إما مستهلكاً للأحداث الكبرى أو مشاركاً شرفياً فيها، يمر الآن بتحول زلزالي يضعه في قلب المعادلة، ليس كلاعب، بل كقوة يُحسب لها حساب.
ما نشهده اليوم يتجاوز مجرد “تطورات”؛ إنه “إعادة صياغة” للدور والمكانة.
هذا التحول لا يسير في اتجاه واحد، بل في مسارين متوازيين ومثيرين بنفس القدر. المسار الأول هو “الاستثمار” الضخم، والثاني هو “الإنجاز” البشري.
على جبهة الاستثمار، تقود المملكة العربية السعودية مشهداً غير مسبوق. ما بدأ كاستثمار في أندية أوروبية تحول إلى بناء دوري محلي (دوري روشن السعودي) أصبح في غضون أشهر “وجهة” لأبرز نجوم العالم، من كريستيانو رونالدو إلى نيمار وكريم بنزيما. هذا ليس مجرد إنفاق لجذب الانتباه، بل هو جزء من استراتيجية “رؤية 2030” لفتح الأبواب، وتنويع الاقتصاد، وجعل الرياضة قطاعاً حيوياً. امتد هذا التأثير إلى عالم الجولف (LIV Golf)، والملاكمة، واستضافة سباقات الفورمولا 1، وصولاً إلى الفوز المنتظر باستضافة كأس العالم 2034.
هذا البناء يأتي على أساس متين وضعته دول أخرى. دولة قطر، بعد تنظيمها المذهل لكأس العالم 2022، أثبتت للعالم قدرة المنطقة على تنظيم الحدث الأكبر على الإطلاق بمعايير لا تشوبها شائبة، تاركةً إرثاً دائماً في البنية التحتية والمكانة العالمية. وبجانبها، تواصل الإمارات (أبوظبي ودبي) ترسيخ مكانتها كعاصمة للرياضات المختلفة، من بطولات الفنون القتالية المختلطة (UFC) إلى سباق الفورمولا 1 الختامي وبطولات التنس العالمية.
لكن المال واستضافة الأحداث ليسا القصة الكاملة.
التطور الأكثر إثارة، والذي يمس الوجدان، هو المسار الثاني: “الإنجاز”. لقد شاهدنا جيلاً عربياً يرفض دور الضيف. الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي (أسود الأطلس) ووصوله إلى نصف نهائي مونديال قطر، لم يكن صدفة، بل كان تتويجاً لبناء استمر لسنوات، وهو الآن يشارك في تنظيم مونديال 2030.
في الملاعب الفردية، تبرز أيقونات حقيقية. التونسية أُنس جابر، الملقبة بـ “وزيرة السعادة”، لم تكسر الحواجز في عالم التنس النسائي فقط، بل أصبحت ملهمة لملايين الشابات العربيات. وفي مصر، لا يزال محمد صلاح رمزاً عالمياً يتجاوز كونه لاعباً، بينما تواصل مصر هيمنتها المطلقة على رياضة الإسكواش عالمياً، رجالاً وسيدات.
ما يجعل هذه اللحظة “مثيرة” هو أن هذين المسارين (الاستثمار الحكومي والإنجاز الفردي) يغذيان بعضهما البعض. الاستثمار يخلق البنية التحتية، والإنجازات الفردية تلهم الجيل الجديد لاستغلال هذه البنية.
نحن نشهد نهاية حقبة “المشاركة من أجل التمثيل المشرف”، وبداية حقبة “المنافسة على القمة”. الرياضة في العالم العربي لم تعد ترفيهياً هامشياً، بل أصبحت واجهة للاقتصاد الجديد، وأداة للقوة الناعمة، والأهم من ذلك، مصدراً للفخر العميق.